هواري بومدين
صفحة 1 من اصل 1
هواري بومدين
هواري بومدين رجل دولة وأحد الزعماء البارزين للثورة الجزائرية، وضع بصماته على التاريخ الجزائري المعاصر، قائداً عسكرياً ثم رئيساً للدولة منذ عام1965 حتى عام 1976، ثم رئيساً للجمهورية حتى وفاته، ويعد بومدين مؤسس الدولة الجزائرية المستقلة، كما يعد في أقطاب عدم الانحياز، وفي رواد حركة التحرر الوطني، وفي طلائع قيادات العالم العربي والإسلامي. اسمه الحقيقي محمد بوخروبة، ولد في منطقة «قالمة» في الشرق الجزائري، التي شهدت عمليات القمع الفرنسي الرهيب في أيار 1945، وكان أبوه، عبد الله، مزارعاً بسيطاً، اتسمت حياته بالكثير من الغموض، الذي ضاعف منه حياؤه وكرهه للأضواء.
تلقى دراسته الأولية في مدرسة قرآنية، ثم في مدرسة ابتدائية مدنية، والتحق في عام 1949 بمعهد الكتانية في مدينة قسنطينة وهو ثانوية دينية، ثم تركها حين علم بأن السلطات الفرنسية سوف ترغمه على التجنيد الإجباري، وتوجه في عام1951 مع بعض رفاقه براً إلى القاهرة، عبر تونس وليبية، حيث التحق بالدراسة في الجامع الأزهر والتحق في الوقت نفسه بمدرسة ثانوية مسائية.
تأثر بومدين بجو الإحباط العام الذي عاشه العالم العربي بعد الهزيمة في حرب فلسطين (1948- 1949)، واهتم بدراسة معطياتها العسكرية والنتائج السياسية التي نجمت عنها، في مصر وسورية والأردن خاصة، ثم تفاعل مع الجو الوطني الذي عرفته مصر في مطلع الخمسينيات، إثر تصاعد عمليات مكافحة الوجود البريطاني في قناة السويس، وكان يتابع باهتمام نشاط الأحزاب الموجودة على الساحة، وبوجه خاص حركة الإخوان المسلمين، لكن اهتمامه بالساحة المصرية تزايد بعد قيام الثورة المصرية، وظل يتابعها بالاهتمام نفسه طوال حياته.
التحق بومدين بالثورة الجزائرية منذ بدايتها، بعد تدريب عسكري سريع في مصر (1954-1955)، واختار لنفسه اسماً ثورياً مركباً هو: هواري بومدين، الذي يشير إلى اثنين من الأولياء في منطقة الغرب الجزائري، وصعد سلم المسؤوليات من أسفله، مُدرباً بسيطاً في البداية إلى أن عُيّن نائباً لقائد الولاية الخامسة (الغرب) فقائداً لها برتبة عقيد 1957، ثم مسؤولاً عن قيادة الغرب الجزائري في السنة نفسها، كما اختير عضواً في المجلس الوطني للثورة الجزائرية (برلمان الثورة ومرجعها السياسي) في السنة التالية، ثم عُيّن قائداً لأركان جيش التحرير الوطني في آذار 1960.
اختلف بومدين مع الحكومة الجزائرية المؤقتة، التي كانت في واقع الأمر مجرد سفارة متميزة للثورة الجزائرية، فقد كان المقاتلون هم القوة الفعلية، وكان محور الاختلاف بعض بنود اتفاقية إيفيان Evian التي قررت استقلال الجزائر، والدور المستقبلي لجيش التحرير الوطني والتنظيم السياسي للجزائر بعد الاستقلال.
وتفاقم الخلاف بعد عزل الحكومة لقيادة الأركان سنة 1962، وهو ما رفضه تيار ثوري واسع بقيادة بومدين، انضم إليه الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلا، وصار واجهته السياسية، وسقطت الحكومة المؤقتة وأجهضت مخططاتها، وتسلم السلطة التيار الثوري بقيادة أحمد بن بلا بدعم كامل من قائد الجيش، وحُجّمت كل التيارات المعتدلة والقيادات المناوئة.
ركز بومدين جهوده بعد الاستقلال تموز 1962 على تطوير جيش التحرير، الذي صار الجيش الوطني الشعبي.واعتمدت الجزائر منذ البداية في تسليحها على المعسكر الاشتراكي، مع التمسك سياسياً بعدم الانحياز واقتصادياً بالانفتاح على الجميع.
عين بومدين وزيراً للدفاع الوطني ونائباً لرئيس الحكومة في أيلول 1962 ثم بدأ التباين في وجهات النظر يزداد بينه وبين رئيس الجمهورية أحمد بن بلا، الذي كان معزولاً عن الأحداث بحكم سجنه الطويل، وتفاقم الخلاف بينهما، خاصة في أثناء مؤتمر الحزب عام1964 وزادت حدة الخلاف حين عين الرئيس العقيد الطاهر الزبيري رئيساً للأركان في غياب وزير الدفاع، فيما بدا كمحاولة لاختراق الجيش لم يتجاوب معها الزبيري. ووصلت الأمور إلى قمة التوتر عندما اتجه الرئيس إلى تكوين ميليشيات لمواجهة نفوذ الجيش، الذي صار أكبر قوة منظمة في البلاد، ثم حين بدأ في تصفية بعض الوزراء والمسؤولين من أنصار بومدين، الذي تحرك بسرعة، فأرسل مجموعة بقيادة الزبيري نفسه للقبض على الرئيس بن بلا فجر يوم 19 حزيران 1965، وأمسك بمقاليد الأمور بكل سهولة، وأطلق على هذا التحرك «التصحيح الثوري» وصار بومدين رئيساً للدولة بصفته رئيساً لمجلس الثورة، ثم ألّف حكومة جديدة برئاسته.
أعاد بومدين رفات الأمير عبد القادر الجزائري من دمشق إلى الجزائر، وكان في مقدمة أعضاء مجلس الثورة الذين حملوا تابوت الأمير إلى ضريحه الجديد، في مقبرة الشهداء، في إشارة رمزية إلى أن الدولة الجزائرية الحديثة هي استكمال لدولة الأمير، وأن مجلس الثورة هو الذي يتحمل مسؤوليتها. ثم اتجه بكل قواه في المرحلة الأولى من حكمه، نحو بناء الدولة على محاور أساسية ثلاثة:
ـ استرجاع الثروات الوطنية بتأميم المناجم 1966 ثم النفط 1971، بعد أن أَمّمت البنوك وشركات التأمين، وكانت كلها ما زالت تحت السيطرة الفرنسية بحكم اتفاقيات إيفيان.
ـ سنُّ التعليم الوطني المجاني الإجباري في كل مراحل الدراسة، والتوسع في عمليات التأهيل في مختلف المجالات، مع التركيز على استعادة اللغة العربية لمكانتها لغة وطنية ورسمية، وكان هذا سبباً في تناقضات عدة مع الإطارات الإدارية التي كانت مكونة بالفرنسية.
ـ إقامة مؤسسات ديمقراطية بخطوات تدريجية تواكب اكتمال عمليات البناء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بما يجعل من إقامة المجلس الوطني (البرلمان) خطوة نهائية، وليس تقليداً صورياً للديمقراطيات الغربية، وأوجد هذا تنافراً مع أبناء التكوين الغربي، أضيف إلى التناقض اللغوي.
وتعرض نظام بومدين في البداية لعملية انقلابية غير ناجحة، قام بها العقيد الزبيري عام 1967، وترتب على ذلك الإخفاق محاولة لاغتيال الرئيس في نيسان 1968، وحُكم على الذين قاموا بالعملية بالإعدام، ولكن بومدين لم يوقع على تنفيذ الأحكام.
انطلقت المرحلة الثانية من حكم الرئيس بومدين بالمناقشة الشعبية العامة للميثاق الوطني، الذي صودق عليه في استفتاء عام 1976. وتلا ذلك استفتاء على الدستور الجديد، المنبثق من الميثاق، والذي أكد أن دين الدولة هو الإسلام وأن اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية وأن الاشتراكية هي اختيار وطني، وكان الأمر الأخير مثار تناقض مع بذور الرأسمالية الناشئة، التي بدأت تتكون بفعل حركية التنمية، وتجاوبت معها بعض القيادات الدينية التي كانت قد همشت في السنوات الأولى للاستقلال.
بعد ذلك أجريت الانتخابات البرلمانية عام 1977، ثم تفرغ الرئيس لبناء المؤسسة الحزبية التي لم تكن على قائمة الأسبقيات في المرحلة الأولى، وكان الميثاق الوطني هو القاعدة الإيديولوجية لحزب جبهة التحرير الوطني في تنظيمه الجديد، حزباً واحداً، وكانت المنظمات الجماهيرية (المجاهدون، العمال، الفلاحون، الشبيبة، النساء) هي روافده البشرية الأساسية.
توجه بومدين إلى موسكو للعلاج في أيلول 1978 مما كان يعتقد أنه إصابة في المسالك البولية، وأعيد إلى الجزائر في حالة سيئة، حيث أصيب بغيبوبة استمرت أربعين يوماً، وتوفي في 27 كانون الأول، عن عمر لا يتجاوز 46سنة، ودفن بجوار الأمير عبد القادر، وكان تشخيص الأطباء بأن الوفاة نتجت من مرض نادر الحدوث اسمه مرض والدنستروم Maladie de Waldenstrِm، وهو خلل خبيث في بروتين الدم في حين كان التشخيص الرائج شعبياً هو أن الرئيس تعرض لعملية اغتيال بأسلوب جديد.
نعمت الجزائر في عهد بومدين بالاستقرار الداخلي، وعرفت ازدهاراً في النشاط الصناعي والثقافي وتقدماً في المجال العلمي وزيادة هامة في الدخل الفردي وارتفاعاً في المستوى المعيشي، لكن كل هذا لم يواكبه تطور ملموس في المجال الزراعي، مما فتح الباب واسعاً أمام استيراد المواد الغذائية، إضافة إلى أن الشرخ اللغوي لم يَجْرِ التعامل معه بحسم، مما كان له نتائج سلبية في المستقبل،
وكانت سياسة الجزائر الخارجية في عهده، وكما أرادها، انعكاساً للسياسة الداخلية، التي أولاها اهتمامه الرئيسي. فقد تميزت سياسته على مستوى المغرب العربي بالسعي نحو التعامل المتزن مع الجيران، واحترام أنظمة الحكم القائمة، ومحاولة فتح آفاق للتعاون الاقتصادي، واقترن ذلك بالحرص على حلّ القضايا المعلقة حول الحدود، انطلاقاً من المبدأ الذي سنته منظمة الوحدة الإفريقية، القاضي باحترام الحدود الموروثة لدى الاستقلال، ورفض كل الدعاوى التاريخية. لكن الأوضاع توترت في المنطقة إثر قيام مشكل الصحراء الغربية، الذي كان نتيجة لتناقض النظرة إلى القضية بين الجزائر والمغرب .
أما على المستوى العربي، فقد احتضن بومدين الثورة الفلسطينية عملياً منذ منتصف الستينات، ورفض منطق الفصائل متمسكاً بالدعوة للوحدة الوطنية، وفتح أبواب الكلية الحربية والجامعات الجزائرية لأبناء فلسطين، ورفع شعاره المشهور «نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة».
وتأثر بومدين تأثراً بالغاً بوفاة عبد الناصر، لكنه كان أول من شجع نائب الرئيس، أنور السادات، على العمل لتفادي حدوث أي فراغ على قمة السلطة في أكبر بلد عربي.
ومع تحفظاته على سير حرب تشرين الأول 1973، فقد وضع كل إمكانيات الجزائر في دعم جبهات القتال، كما أسهم إسهاماً بارزاً في دعم الكفاح العربي، مع الملك فيصل بن عبد العزيز، وفي الضغط على الاتحاد السوفييتي لضمان تزويد الجبهتين المصرية والسورية بالأسلحة الضرورية.
وكان من أبرز إنجازاته تحقيق المصالحة بين العراق وإيران التي أسفرت عن توقيع اتفاق الجزائر، في آذار 1975.
وانهارت الجسور بينه وبين القيادة المصرية بعد زيارة الرئيس السادات إلى القدس المحتلة في تشرين الثاني عام1977، وترتب على ذلك تكوين الجبهة القومية للصمود والتصدي، التي كانت مشاركته في مؤتمرها الثالث في دمشق أيلول 1978 آخر نشاطاته السياسية.
وتميزت مشاركة الجزائر في عهد بومدين في مؤتمرات القمة الإسلامية بالحرص على التضامن الإسلامي في كل المجالات، كما برزت في تصفية الخلافات بين الدول الإسلامية، مما أعطى الجزائر صفة الوسيط الدولي النزيه والمقبول من كل الأطراف، وكان أهم الإنجازات تصفية نتائج الصراع الدموي بين باكستان وبنغلادش (لاهور ـ شباط 1974).
ويرى كثيرون أن بومدين كان يسعى إلى تكوين ما يمكن أن يُعد «العالم الثالث الجديد» الذي يضم العالم الثالث المعروف، من جهة، وبلدان أوربة الغربية من جهة أخرى، وذلك لإيجاد التوازن الدولي بين الكتلتين الأمريكية والسوفييتية.
مات بومدين من دون أن يقوم بأي زيارة رسمية لأي دولة غربية، وكانت أسبقياته في الزيارات هي الدول العربية والإسلامية، ثم دول عدم الانحياز، وخاصة الدول الإفريقية، ثم الدول الاشتراكية، وخاصة الاتحاد السوفييتي، كما زار الصين وكورية الشمالية وكوبة وفييتنام.
تلقى دراسته الأولية في مدرسة قرآنية، ثم في مدرسة ابتدائية مدنية، والتحق في عام 1949 بمعهد الكتانية في مدينة قسنطينة وهو ثانوية دينية، ثم تركها حين علم بأن السلطات الفرنسية سوف ترغمه على التجنيد الإجباري، وتوجه في عام1951 مع بعض رفاقه براً إلى القاهرة، عبر تونس وليبية، حيث التحق بالدراسة في الجامع الأزهر والتحق في الوقت نفسه بمدرسة ثانوية مسائية.
تأثر بومدين بجو الإحباط العام الذي عاشه العالم العربي بعد الهزيمة في حرب فلسطين (1948- 1949)، واهتم بدراسة معطياتها العسكرية والنتائج السياسية التي نجمت عنها، في مصر وسورية والأردن خاصة، ثم تفاعل مع الجو الوطني الذي عرفته مصر في مطلع الخمسينيات، إثر تصاعد عمليات مكافحة الوجود البريطاني في قناة السويس، وكان يتابع باهتمام نشاط الأحزاب الموجودة على الساحة، وبوجه خاص حركة الإخوان المسلمين، لكن اهتمامه بالساحة المصرية تزايد بعد قيام الثورة المصرية، وظل يتابعها بالاهتمام نفسه طوال حياته.
التحق بومدين بالثورة الجزائرية منذ بدايتها، بعد تدريب عسكري سريع في مصر (1954-1955)، واختار لنفسه اسماً ثورياً مركباً هو: هواري بومدين، الذي يشير إلى اثنين من الأولياء في منطقة الغرب الجزائري، وصعد سلم المسؤوليات من أسفله، مُدرباً بسيطاً في البداية إلى أن عُيّن نائباً لقائد الولاية الخامسة (الغرب) فقائداً لها برتبة عقيد 1957، ثم مسؤولاً عن قيادة الغرب الجزائري في السنة نفسها، كما اختير عضواً في المجلس الوطني للثورة الجزائرية (برلمان الثورة ومرجعها السياسي) في السنة التالية، ثم عُيّن قائداً لأركان جيش التحرير الوطني في آذار 1960.
اختلف بومدين مع الحكومة الجزائرية المؤقتة، التي كانت في واقع الأمر مجرد سفارة متميزة للثورة الجزائرية، فقد كان المقاتلون هم القوة الفعلية، وكان محور الاختلاف بعض بنود اتفاقية إيفيان Evian التي قررت استقلال الجزائر، والدور المستقبلي لجيش التحرير الوطني والتنظيم السياسي للجزائر بعد الاستقلال.
وتفاقم الخلاف بعد عزل الحكومة لقيادة الأركان سنة 1962، وهو ما رفضه تيار ثوري واسع بقيادة بومدين، انضم إليه الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلا، وصار واجهته السياسية، وسقطت الحكومة المؤقتة وأجهضت مخططاتها، وتسلم السلطة التيار الثوري بقيادة أحمد بن بلا بدعم كامل من قائد الجيش، وحُجّمت كل التيارات المعتدلة والقيادات المناوئة.
ركز بومدين جهوده بعد الاستقلال تموز 1962 على تطوير جيش التحرير، الذي صار الجيش الوطني الشعبي.واعتمدت الجزائر منذ البداية في تسليحها على المعسكر الاشتراكي، مع التمسك سياسياً بعدم الانحياز واقتصادياً بالانفتاح على الجميع.
عين بومدين وزيراً للدفاع الوطني ونائباً لرئيس الحكومة في أيلول 1962 ثم بدأ التباين في وجهات النظر يزداد بينه وبين رئيس الجمهورية أحمد بن بلا، الذي كان معزولاً عن الأحداث بحكم سجنه الطويل، وتفاقم الخلاف بينهما، خاصة في أثناء مؤتمر الحزب عام1964 وزادت حدة الخلاف حين عين الرئيس العقيد الطاهر الزبيري رئيساً للأركان في غياب وزير الدفاع، فيما بدا كمحاولة لاختراق الجيش لم يتجاوب معها الزبيري. ووصلت الأمور إلى قمة التوتر عندما اتجه الرئيس إلى تكوين ميليشيات لمواجهة نفوذ الجيش، الذي صار أكبر قوة منظمة في البلاد، ثم حين بدأ في تصفية بعض الوزراء والمسؤولين من أنصار بومدين، الذي تحرك بسرعة، فأرسل مجموعة بقيادة الزبيري نفسه للقبض على الرئيس بن بلا فجر يوم 19 حزيران 1965، وأمسك بمقاليد الأمور بكل سهولة، وأطلق على هذا التحرك «التصحيح الثوري» وصار بومدين رئيساً للدولة بصفته رئيساً لمجلس الثورة، ثم ألّف حكومة جديدة برئاسته.
أعاد بومدين رفات الأمير عبد القادر الجزائري من دمشق إلى الجزائر، وكان في مقدمة أعضاء مجلس الثورة الذين حملوا تابوت الأمير إلى ضريحه الجديد، في مقبرة الشهداء، في إشارة رمزية إلى أن الدولة الجزائرية الحديثة هي استكمال لدولة الأمير، وأن مجلس الثورة هو الذي يتحمل مسؤوليتها. ثم اتجه بكل قواه في المرحلة الأولى من حكمه، نحو بناء الدولة على محاور أساسية ثلاثة:
ـ استرجاع الثروات الوطنية بتأميم المناجم 1966 ثم النفط 1971، بعد أن أَمّمت البنوك وشركات التأمين، وكانت كلها ما زالت تحت السيطرة الفرنسية بحكم اتفاقيات إيفيان.
ـ سنُّ التعليم الوطني المجاني الإجباري في كل مراحل الدراسة، والتوسع في عمليات التأهيل في مختلف المجالات، مع التركيز على استعادة اللغة العربية لمكانتها لغة وطنية ورسمية، وكان هذا سبباً في تناقضات عدة مع الإطارات الإدارية التي كانت مكونة بالفرنسية.
ـ إقامة مؤسسات ديمقراطية بخطوات تدريجية تواكب اكتمال عمليات البناء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، بما يجعل من إقامة المجلس الوطني (البرلمان) خطوة نهائية، وليس تقليداً صورياً للديمقراطيات الغربية، وأوجد هذا تنافراً مع أبناء التكوين الغربي، أضيف إلى التناقض اللغوي.
وتعرض نظام بومدين في البداية لعملية انقلابية غير ناجحة، قام بها العقيد الزبيري عام 1967، وترتب على ذلك الإخفاق محاولة لاغتيال الرئيس في نيسان 1968، وحُكم على الذين قاموا بالعملية بالإعدام، ولكن بومدين لم يوقع على تنفيذ الأحكام.
انطلقت المرحلة الثانية من حكم الرئيس بومدين بالمناقشة الشعبية العامة للميثاق الوطني، الذي صودق عليه في استفتاء عام 1976. وتلا ذلك استفتاء على الدستور الجديد، المنبثق من الميثاق، والذي أكد أن دين الدولة هو الإسلام وأن اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية وأن الاشتراكية هي اختيار وطني، وكان الأمر الأخير مثار تناقض مع بذور الرأسمالية الناشئة، التي بدأت تتكون بفعل حركية التنمية، وتجاوبت معها بعض القيادات الدينية التي كانت قد همشت في السنوات الأولى للاستقلال.
بعد ذلك أجريت الانتخابات البرلمانية عام 1977، ثم تفرغ الرئيس لبناء المؤسسة الحزبية التي لم تكن على قائمة الأسبقيات في المرحلة الأولى، وكان الميثاق الوطني هو القاعدة الإيديولوجية لحزب جبهة التحرير الوطني في تنظيمه الجديد، حزباً واحداً، وكانت المنظمات الجماهيرية (المجاهدون، العمال، الفلاحون، الشبيبة، النساء) هي روافده البشرية الأساسية.
توجه بومدين إلى موسكو للعلاج في أيلول 1978 مما كان يعتقد أنه إصابة في المسالك البولية، وأعيد إلى الجزائر في حالة سيئة، حيث أصيب بغيبوبة استمرت أربعين يوماً، وتوفي في 27 كانون الأول، عن عمر لا يتجاوز 46سنة، ودفن بجوار الأمير عبد القادر، وكان تشخيص الأطباء بأن الوفاة نتجت من مرض نادر الحدوث اسمه مرض والدنستروم Maladie de Waldenstrِm، وهو خلل خبيث في بروتين الدم في حين كان التشخيص الرائج شعبياً هو أن الرئيس تعرض لعملية اغتيال بأسلوب جديد.
نعمت الجزائر في عهد بومدين بالاستقرار الداخلي، وعرفت ازدهاراً في النشاط الصناعي والثقافي وتقدماً في المجال العلمي وزيادة هامة في الدخل الفردي وارتفاعاً في المستوى المعيشي، لكن كل هذا لم يواكبه تطور ملموس في المجال الزراعي، مما فتح الباب واسعاً أمام استيراد المواد الغذائية، إضافة إلى أن الشرخ اللغوي لم يَجْرِ التعامل معه بحسم، مما كان له نتائج سلبية في المستقبل،
وكانت سياسة الجزائر الخارجية في عهده، وكما أرادها، انعكاساً للسياسة الداخلية، التي أولاها اهتمامه الرئيسي. فقد تميزت سياسته على مستوى المغرب العربي بالسعي نحو التعامل المتزن مع الجيران، واحترام أنظمة الحكم القائمة، ومحاولة فتح آفاق للتعاون الاقتصادي، واقترن ذلك بالحرص على حلّ القضايا المعلقة حول الحدود، انطلاقاً من المبدأ الذي سنته منظمة الوحدة الإفريقية، القاضي باحترام الحدود الموروثة لدى الاستقلال، ورفض كل الدعاوى التاريخية. لكن الأوضاع توترت في المنطقة إثر قيام مشكل الصحراء الغربية، الذي كان نتيجة لتناقض النظرة إلى القضية بين الجزائر والمغرب .
أما على المستوى العربي، فقد احتضن بومدين الثورة الفلسطينية عملياً منذ منتصف الستينات، ورفض منطق الفصائل متمسكاً بالدعوة للوحدة الوطنية، وفتح أبواب الكلية الحربية والجامعات الجزائرية لأبناء فلسطين، ورفع شعاره المشهور «نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة».
وتأثر بومدين تأثراً بالغاً بوفاة عبد الناصر، لكنه كان أول من شجع نائب الرئيس، أنور السادات، على العمل لتفادي حدوث أي فراغ على قمة السلطة في أكبر بلد عربي.
ومع تحفظاته على سير حرب تشرين الأول 1973، فقد وضع كل إمكانيات الجزائر في دعم جبهات القتال، كما أسهم إسهاماً بارزاً في دعم الكفاح العربي، مع الملك فيصل بن عبد العزيز، وفي الضغط على الاتحاد السوفييتي لضمان تزويد الجبهتين المصرية والسورية بالأسلحة الضرورية.
وكان من أبرز إنجازاته تحقيق المصالحة بين العراق وإيران التي أسفرت عن توقيع اتفاق الجزائر، في آذار 1975.
وانهارت الجسور بينه وبين القيادة المصرية بعد زيارة الرئيس السادات إلى القدس المحتلة في تشرين الثاني عام1977، وترتب على ذلك تكوين الجبهة القومية للصمود والتصدي، التي كانت مشاركته في مؤتمرها الثالث في دمشق أيلول 1978 آخر نشاطاته السياسية.
وتميزت مشاركة الجزائر في عهد بومدين في مؤتمرات القمة الإسلامية بالحرص على التضامن الإسلامي في كل المجالات، كما برزت في تصفية الخلافات بين الدول الإسلامية، مما أعطى الجزائر صفة الوسيط الدولي النزيه والمقبول من كل الأطراف، وكان أهم الإنجازات تصفية نتائج الصراع الدموي بين باكستان وبنغلادش (لاهور ـ شباط 1974).
ويرى كثيرون أن بومدين كان يسعى إلى تكوين ما يمكن أن يُعد «العالم الثالث الجديد» الذي يضم العالم الثالث المعروف، من جهة، وبلدان أوربة الغربية من جهة أخرى، وذلك لإيجاد التوازن الدولي بين الكتلتين الأمريكية والسوفييتية.
مات بومدين من دون أن يقوم بأي زيارة رسمية لأي دولة غربية، وكانت أسبقياته في الزيارات هي الدول العربية والإسلامية، ثم دول عدم الانحياز، وخاصة الدول الإفريقية، ثم الدول الاشتراكية، وخاصة الاتحاد السوفييتي، كما زار الصين وكورية الشمالية وكوبة وفييتنام.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى